المادة    
جاء من الناس من يعترض على ما أنزله الله، أو جاء به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنواع الاعتراض على ما جاء من عند الله، والتي تقدح في الرضا، وهي في هذا العمل القلبي العظيم كثيرة متفاوتة منها:
  1. الاعتراض على توحيد الله وأسمائه وصفاته

    أعظم أنواع الاعتراض: الاعتراض على الله تعالى في دينه، وفيما أنزل من الدين، ووصى به جميع الأنبياء والمرسلين، وبعث به هؤلاء أجمعين، وفرضه على خلقه كافة من توحيده عز وجل ومعرفته بأسمائه وصفاته، ولذلك ظهر في هذه الأمة -مع الأسف الشديد- من يعترض على ما أنزل الله تعالى في أصل الدين، فظهر فيها من يعترضون على أسماء الله وصفاته، وهو الذي له صفات الكمال، ونعوت الجمال، وله الأسماء الحسنى عز وجل وله المثل الأعلى في السماوات والأرض، وما من صفات كمال إلا وهي له، فأي صفة كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه فالله تبارك وتعالى له فيها الكمال المطلق.
    ثم جاء المعترضون على هذا فنفوا صفات الله عز وجل واعترضوا عليها، وأوَّلوا كلامه، وردوا ما جاء عن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا يمس أصل الدين وأصل الإيمان، فبعضهم أنكر أسماء الله وصفاته كلها، كـالجهمية، والمتفلسفة، والباطنية وأمثالهم ممن انحرفوا عن الصراط المستقيم، فهؤلاء لا خير فيهم مطلقاً، ولهذا أخرجهم كثير من العلماء عن فرق الأمة وطوائفها مطلقاً- نعوذ بالله من الضلالة - لأنهم لا يؤمنون حقيقة ًبالله عز وجل لأننا لا نعرف الله عز وجل إلا بأسمائه، وصفاته، فإذا كنا لا نعرف من نعبد، فكيف نعبده تبارك وتعالى؟!
    فلنفرض أن أحداً كان من أعبد خلق الله؛ لكنه لا يعرف الله، ولا يعرف أن ربه تبارك وتعالى وأن معبوده عز وجل استوى على العرش -كما أخبر في سبعة مواضع من كتابه- فعندما يسجد ويتعبد ويقول: سبحان ربي الأعلى، وهو لا يعرف علو الله فهو متناقض مع نفسه، فكيف يعتقد شيئاً ويقول بخلافه، فلا يمكن أن يُعبد الله عز وجل إلا إذا عرف الله تبارك وتعالى على الحقيقة.
    ويليهم: المعتزلة الذين أنكروا جميع الصفات، وأثبتوا الأسماء، وجعلوها مترادفات للدلالة على الذات، فالعزيز والحكيم والجبار والمتكبر وكل الأسماء معناها واحد، فهي مجرد أسماء تدل على الذات، ولا يشتق منها صفات، فهم يقولون -مثلاً-: إن الله تعالى اسمه الحكيم، ولكن لا نشتق منه الحكمة، أو العزيز فلا نؤمن بأن له تعالى صفة العزة... وهكذا، فنفوا ذلك جميعاً، وجعلوها كالأعلام المترادفة في الدلالة على الذات.
    ثم الأشعرية وهم: الذين خففوا وهذبوا شيئاً من غُلو هؤلاء، ولكنهم لم يثبتوا لله ما أثبته لنفسه تبارك وتعالى أو أثبته له رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من غير تعطيل، ولا تمثيل، ولا تحريف، ولا تأويل.
    فخلاصة القول: أننا نحن الذين رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبكل ما يخبرنا به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    نؤمن بما ذكر وبما وصف الله به نفسه، وبما وصفه به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن كل ذلك حق، ولا نفرق بين شيء منه، فنؤمن بعلوه، ونؤمن بنزوله عز وجل في الثلث الأخير من الليل، ونؤمن بأنه تبارك وتعالى يأتي ويجيء يوم القيامة لفصل الحساب، ونؤمن بأنه يكلم ويخاطب من شاء، متى شاء وكيفما شاء، إلى آخر هذه الأسماء والصفات لله تبارك وتعالى، فأولئك الذين سبق ذكرهم هم النوع الأول من الذين اعترضوا في أصل الدين.
  2. الاعتراض على أمر الله الشرعي

    هناك نوع آخر لم يعترضوا على ذلك، وإنما جاء اعتراضهم من باب آخر، ولا سيما في زماننا هذا، وهم الذين اعترضوا على الشرع، وعلى ما قضى الله تبارك وتعالى به قضاءً شرعياً، وعلى أحكام الله التي جعلها لعباده من الحل، والحرمة، والوجوب، والتحريم، والندب، وغير ذلك، مما يشمل أحوال الناس، ومعاملاتهم وشئونهم في هذه الحياة الدنيا.
    فجاء هؤلاء القوم واعترضوا على هذه الأحكام وعلى هذه الشريعة بالقوانين الوضعية، وربما اعترضوا عليه بالآراء والعادات الجاهلية -كحال أهل البوادي وأمثالها- فحكموا الطواغيت أو ما أشبه ذلك، فكل هذا اعتراض على شرع الله، وحكمه الشرعي الديني، وهذا خطير جداً، وهو يدخل أيضاً في الاعتراض أو يلحق بالاعتراض على أصل معرفة الله، ويلحق به ويليه بالدرجة من جهة أنه كفر بالله تبارك وتعالى.
    كمن يعترض على ما شرع الله عز وجل في حد الزنا -وهو الرجم للزاني إن كان محصناً، أو الجلد إن كان غير ذلك، بشروطه المعروفة -فيلغي ذلك، وينسخه، ويجعل مكان الجلد التحميم، كما فعل اليهود، أو يلغي الجلد أيضاً، ويجعل مكان ذلك كله الحبس أو الغرامة، كما في القوانين الوضعية التي تحكم أكثر العالم الإسلامي اليوم ولا حول ولا قوة إلا بالله.
    ويعترضون على حكم الله تبارك وتعالى الذي قال فيه: ((وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا)) [البقرة:275]، فيجعلون الربا حلالاً، ويستحلونه ويضعون له الأحكام الطويلة، ويشرعون كيفية إباحته، فيحددون نسبته وآجالاً معينة لها، ويجعلون له ألواناً وأشكالاً من الأخذ والعطاء، والدفع، والاحتيال، بل والاستحلال لدين الله تبارك وتعالى وتقوم على هذه التشريعات الوضعية المنافية لكتاب الله وسنة رسوله صروح وأعمدة للاقتصاد الوطني أو العالمي كما هو ملاحظ الآن.
    فهذا -أيضاً- اعتراض على الله تبارك وتعالى فيما شرع من أحكام، ولا يشك عاقل أن الربا من أخطر ما يرتكب من الذنوب، كما بين ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: {الربا سبعون باباً أيسرها كأن ينكح الرجل أمه}، وفي الحديث الآخر: {درهم رباً أشد من ست وثلاثين زنية}، والعياذ بالله، والله تبارك وتعالى قد تأذن عليهم بالحرب: ((فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)) [البقرة:279]، يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله: ''إن الربا من آخر ما نزل، وقد توعد الله تبارك وتعالى بالحرب ثقيفاً وغيرها من القبائل لما أرادت أن لا تحرم الربا، فكانت العقوبة أن يحاربها رسول الله'' فالمقصود أن من أحله، وشرَّع تحليله، فهو معترض على الله تعالى في ذلك.
    وأسوأ منه الذي يجاهر ويقول: الذي شرعه الله لا يصلح أن يكون للحياة الحديثة، أو للاقتصاد الحديث، أو إننا في هذه الأيام لا بد أن نأخذ بالتشريعات المنافية، والمخالفة لما جاء في القرآن، فهذا -والعياذ بالله- معترض على الله تبارك وتعالى اعتراضاً واضحاً بيناً جلياً، فلا حظَّ له في الإيمان وليس داخلاً في الذين ذكرنا درجاتهم، لأنه كما ذكر الله تعالى: (( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ)) [النساء:65].
    فهذا لم يحكِّم أصلاً، فضلاً عن نفي الحرج، أو التسليم، ولذلك فهو غير مؤمن -نسأل الله العفو والعافية- ويقاس على ذلك أشياء كثيرة، كحد السرقة مثلاً، وحد الردة وغير ذلك.
  3. الاعتراض على إخبار الله عما في الكون

    هناك نوع آخر من أنواع الاعتراض، وهو أيضاً يقدح في الإيمان وفي أصل الدين والإيمان، وهو مناف للرضا أيما منافاة! وهو الاعتراض على أخباره، أو أوامره بما وضعه البشر من أهواء، أو أفكار، أو نظريات قديمة، أو حديثه.
    مثلاً: أخبرنا الله تبارك وتعالى أنه خلقنا نحن جميعاً من نفس واحدة، وجعل منها زوجها، والنفس الواحدة هي آدم، وخلق منها زوجها هي حواء، ثم جعل السلالة البشرية بعد ذلك تتناسل من هذين، فكل من تراه على وجه الأرض، أو من عاش فوقها من البشر، فهم من بني آدم، وأبوهم آدم، وبين الله كيفية الخلق ومم هو في أكثر من آية، فهذا أمر قطعي، يقرؤه كل مؤمن ويجده واضحاً في كتاب الله.
    ثم يأتي قائل -كما هو مشهور الآن في العالم، ويدرس ويلقن أبناءنا وبناتنا- فيقول: ''لا. هؤلاء البشر الذين تراهم، على اختلاف أعراقهم، وأجناسهم، وألوانهم، هم منحدرون من سلالة حيوانية'' وهذه هي نظرية التطور، وهي تقول: إن الأصل القديم حيوان تطور، فأصبح قرداً، وهناك حلقة مفقودة بين القرد وبين الإنسان ثم جاء الإنسان، فعلى هذا فلا يكون هناك آدم، ولا نفس واحدة، ولا خلق الله تبارك وتعالى العالم كما أخبرنا، وكما جاء في القرآن، وإنما يريدون منا أن نؤمن وأن نعتقد ما يعتقدون، ونحن نقول: إن والإيمان بها كفر يخرج صاحبه من الملة، ومن أقرَّها أو قررها أو درسها فقد اعترض على ما جاء في كتاب الله، وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    وهناك مثال آخر: فنحن نعلم أن الله عز وجل خلق كل إنسان منا في هذا الوجود على الفطرة القويمة ((فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)) [الروم:30]، وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كل مولود يولد على الفطرة} فنؤمن أن كل مولود يولد على الفطرة، التي هي {على الملة}، كما بينتها الرواية الأخرى، فكل مولود يولد في الهند، أو في اليابان، أو في إفريقيا، أو في مكة، أو في غيرها يولد على ملة الإسلام، وعلى الدين القويم، ولكن الفطرة تتغير بالتربية كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه}.
    فجاءت النظريات التربوية والنفسية الحديثة -كما يسمونها- تنافي ذلك كله وتقول: إن الإنسان يولد كل بحسب رأيه.
    فمثلاً: نظرية فرويد اليهودي الخبيث، تجعل الإنسان كائناً جنسياً، أو أنه ما ولد ليتدين وإنما كل حركة من حركاته فهي بدافع الرغبة، والشهوة الجنسية، وهذا كلام بمنتهى القذارة، ولكنه ليس بغريب من يهودي خبيث يريد أن يهدم أخلاق البشر جميعاً، والأغرب منه أن يأتي أبناء المسلمين، فيقررون هذا الكلام في مناهجهم التعليمية التي يتلقاها الأبناء، دون أن يذكر أن هذا كفر، وضلال.
    وتأتي النظريات الأخرى، كالنظريات التربوية الاستراتيجية، والنظريات الرأسمالية، ونظريات كثيرة، كل نظرية تفسر رغبات الإنسان، وميوله، منذ ولادته بما ترى، فمثلاً النظرية السلوكية في أمريكا وحدها تنقسم إلى أكثر من عشرين مدرسة نفسية، كل منها لها نظرية عن هذا المخلوق العجيب، ثم تأتي هذه النظريات وتقرر باسم علم النفس، وباسم علم الاجتماع، وما أشبه ذلك من العلوم ولا ينظر في هذه العلوم إلى ما جاء عن الله وعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    أما في النظريات الكونية فإن الله تبارك وتعالى أخبرنا عن هذا الكون بما يكفينا لمعرفته سبحانه، لا لنعرف تفصيلات هذا الكون، ولنعلم أن له رباً، خالقاً، حكيماً، مدبراً تبارك وتعالى، فإذا جاءوا وأخبرونا بخلاف ذلك، كأن يقولوا: إن السماء فضاء لا نهاية له، والله تبارك وتعالى قد أخبرنا أنها سبعاً طباقاً، والنبي في ليلة الإسراء والمعراج يستأذن هو وجبريل في الأولى، ثم في الثانية، والثالثة.. إلى السابعة، وأخبرنا من لقي في الأولى، ومن لقي في الثانية، وفي الثالثة..إلى السابعة، فكلامهم هذا هراء! ونحن نؤمن بما ذكر الله تبارك وتعالى ونرد ما يخالفه.
    فهؤلاء الذين يأتون بنظريات مخالفة لما جاء في كتاب الله تبارك وتعالى، هم من المعترضين على ما جاء عن الله، ومن عند الله.
    أيضاً من يأتي بالنظريات عن صفات الإنسان البشرية، فيعارضون بها ما أخبر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن صفات هذا المخلوق، من أن المرأة دون الرجل في الخلقة، ومن ثَمَّ هي دون الرجل في الواجبات، وفي حمل الأمانة، أو بمعنى آخر: أن الله تبارك وتعالى خلق الذكر والأنثى، وجعل لكل منهما عبادة تتناسب مع ما خلقه وفطره عليها، وتتناسب مع تكوينه الذي كونه الله تبارك وتعالى عليه، وبالتالي جاء هؤلاء وأرادوا أن يجعلوهما في العمل، والواجب، والحقوق والميراث متساويين، وهذا مما يدخل في الاعتراض على الأحكام، فقالوا: ليكن الميراث واحداً، لاكما ذكر الله تبارك وتعالى حيث فرض للذكر مثل حظ الأنثيين، ويريدون أن يجعلوهما واحداً في كل شيء، فللمرأة حق في الانتخابات، وفي الوصول إلى الوزارة، أو أن تكون رئيسة للدولة، أو أن تفعل كل ما يفعله الرجل من الأعمال، وكذلك لها مثل ما له من الحقوق، ومنها هذا الحق في الميراث، فهؤلاء من الذين يعترضون اعتراضاً جلياً واضحاً على ما شرع الله، فكانوا ممن لم يرض بدين الله تبارك وتعالى.
  4. الاعتراض بالأقيسة الفاسدة والأهواء

    هناك نوع من الناس -وهذا واقع في هذه الأمة مع الأسف الشديد كثير جداً ولا حوله ولا قوة إلا بالله- يعترضون بنوع آخر في الاستدلال، ومعرفة الأحكام، وتراهم يعترضون على ما صح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتراهم يبلغهم الحديث الصحيح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيردونه، أو يتأولونه بكلام فلان من أئمة المذاهب أو بقياس كما يسمى، أو بالنظر، أو بالعقل، إلى آخره، فيردون الحديث، ويعترضون على ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى ما شرع من الدين بالقياس، أو بالرأي، أو بالهوى، أو ما يسمونه بالقواعد المنطقية، أو القواعد الكلية، أو ما أشبه ذلك من المسميات، وهي مخالفة لما جاء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليست مأخوذة عنه، ولا متلقاة عن هديه.
    فهؤلاء القوم قد ابتليت بهم هذه الأمة حتى قال قائلهم: ''أي حديث يخالف مذهبنا فهو إما ضعيف أو منسوخ'' سبحان الله! جعل المذهب هو الحكم! فأي حديث يخالف المذهب فهو إما ضعيف، أو موضوع، فلا يؤخذ به، ولا يعتد به، أو منسوخ، وأن العمل يجب أن يكون على المذهب، فتعصب هؤلاء المقلدون كلٌ لمذهبه الذي ينتسب إليه، ومزقوا هذه الأمة، وفرقوها حتى وقع القتال، وأريقت الدماء، وكم من دماء أريقت من أجل حكم فرعي، فلو اتفق الجميع على قبول الحق والإذعان إلى ما شرع الله، لكانوا جميعاً على أمر واحد كما أمر الله: (( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا )) [آل عمران: 103] وإن اختلفوا في فهمه؛ فكل منهم يعذر الآخر باجتهاده، ولكن الهوى والتعصب جعلهم يتقاتلون، فكم وقع من قتال في خراسان، وما وراء النهر بين الشافعية والحنفية، وكم وقع في اليمن بين من ينتمي إلى الفقه الهادوي -أي: الزيدي- وبين الشافعية، فهذا دليل على التعصب المقيت، الذي لو تأمل هؤلاء قليلاً لوجدوا أن أئمة المذاهب ينكرون هذا، ولا يقرونه، وكل منهم كان مجتهداً يريد الحق، كما بين شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله في كتابه الجليل "رفع الملام عن الأئمة الأعلام".
  5. الاعتراض بالكشوفات والرؤى والأحلام

    يوجد نوع آخر من الاعتراض على الدين، والعبادة والشرع الذي شرعه الله، بالخيالات وبالكشوفات، وبالمنامات، وبالرؤى، وبالأحلام، وما أشبه ذلك، وهذا حال الصوفية كما هو حال المتعصبة من الفقهاء، تقول لهم: إن الله تعالى حرم هذا، أو قال فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذا، فيقول: الشيخ الفلاني نام ورأى الخضر عليه السلام في المنام وقال هذا حلال، سبحان الله! ومن قال لك بأن الأحلام والمنامات يعمل بها في معارضة ما جاء من الوحي في كتاب الله؟! ومن قال لك: إن هذا الذي في المنام هو الخضر، لماذا لا يكون الشيطان؟! وهل يحق للخضر أو كائناً من كان، أن يشرِّع غير ما جاء به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو أن يحدث في الدين ما ليس منه؟! بل تصل ببعضهم الجرأة -عياذاً بالله- إلى القول بأنه يرى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقظة، فبعضهم يقول: مناماً ثم يتدرج ويقول: يقظةً، ويقول: هذا حلال وهذا حرام، يعلِّمه أمراً غير ما نعلمه نحن في الكتاب والسنة، وهذا اتهام عظيم شنيع لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه ادخر شيئاً من الدين، أو أنه لم يعلِّمه للعالمين، واختص به هؤلاء الضالين المضلين في آخر الزمان.
    ولا ريب أن هذا شيطان إن جاءه، وإلا فهم كاذبون بما يدعون، وإنما يريدون أن يعترضوا على ما ثبت من الدين بهذه الأباطيل، وهذا إفك وافتراء، سواء أكانت أحلاماً، أم منامات، أم خيالات، أم كشوفات، كما يسمونها.
    بل إن أشد من ذلك كله الذين يعتقدون من أئمة الصوفية أن الله تعالى يخاطبهم بنفسه، ويتكلم معهم، ويناديهم فحقيقة هؤلاء أنهم مدعون للنبوة! لأن من كلمه الله تعالى بلا واسطة، فقد أصبح نبياً بلا ريب، فهؤلاء يدعون النبوة، وحقيقة أمرهم أنهم يريدون القول بأنهم أنبياء، ولا يؤمنون بنبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -والعياذ بالله- فلذلك كم تقرأ في كتبهم أن الشيخ الفلاني كان يعمل من الأعمال التي لا تجوز ولا تحل، وذلك بسب أن المنادي ناداه فقال: يا عبدي فلان هذا حلال، فاستحله وفعله! فهذا شيطان اتخذه عبداً له، وناداه وأمره بأمر يخالف الشرع، ليخرجه من الدين بالكلية، ويتوهم هذا المخدوع الضال -وربما كان مفترياً ومضلاً- أن المخاطب له هو الله تبارك وتعالى!
    وهذا من الدجل المنتشر في أكثر أنحاء العالم الإسلامي، وإن كان ولله الحمد قليلاً في هذه البلاد الطيبة -إن شاء الله- وقد بدأ نور الخير، والسنة، واتباع منهج السلف الصالح، ولله الحمد ينتشر في كل مكان، ولكن هذا مرض موجود في الكتب، وفي واقع الحياة، وهو من أسوأ أنواع الاعتراض على ما جاء عن الله، وعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو مناف للرضا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبياً ورسولاً.
  6. الاعتراض على الشرع بالأعراف والعادات

    وهذه عادة مذمومة ذكرها الله عن الذين كذبوا الأنبياء، وردوا دين الله عز وجل وقالوا: ((بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا)) [البقرة:170].
    فهذا النوع منتشر في الأمة -إلا من رحم الله- وقليل من الناس مَنْ لديه الاستعداد أن يترك عادات القبيلة اتباعاً لما أمر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما الكثير منهم فتقول له: هذا حرام وهذا الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا ينـزجر ولا يتراجع عن حكمه وهواه.
    فمثلاً في الطرب والموسيقى وما أشبه ذلك، يقول: العادة عندنا كذا، والجماعة كذا، والقبيلة كذا، والناس كذا! فيعترض على الدين، وعلى الشرع، بالعادات، والأعراف، والأهواء، والأوضاع الجاهلية، والأمثلة على هذا كثيرة فلا نطيل فيها ولا حول ولا قوة إلا بالله.
  7. الاعتراض على حكمة الله وقدره

    من أنواع الاعتراض الاعتراض على حكمة الله، وعلى قدر الله، وعلى أفعال الله تبارك وتعالى.
    وهذا قديم ومنتشر بين الناس - إلا من وفقه الله للرضا ولحقيقة الرضا- وأكثر المعترضين كفارٌ وهم الذين اعترضوا على أصل الدين، وأصل القدر، وأصل الاختيار، وقدوتهم في ذلك إبليس اللعين، الذي اعترض على أمر الله تبارك وتعالى له بالسجود لآدم، فجعل ما أمره الله به مخالفاً ومنافياً للحكمة، لأنه يرى أن النار أفضل من الطين: ((خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)) [الأعراف:12]، فيرى أن عنصر النار أفضل، فمعنى قوله: إن من الحكمة أن يسجد الطين للنار وليس العكس!
    وكثير من الناس يقعون في هذا وفيما هو أشد منه وهم يعلمون أو لا يعلمون، وبهذا طرده الله من رحمته، وجعل عليه لعنته إلى يوم الدين، وأصبح رأس الكفر في الدنيا، والمشركون تعلموا منه هذا النوع، فاعترضوا على أن يكون الرسول بشر: ((فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ)) [المؤمنون:47]، وفي الآية الأخرى ((قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا))[يس:15].
    فهم يريدون أن يكون الرسول المرسل إليهم ملكاً، أما إذا كان رجلاً فلا، والله تعالى له الحكمة العظيمة في ذلك ((وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ)) [الأنعام:9]، حتى تكون القدوة، وتكون الأسوة، فيكون هذا بشر، وهذا بشر، فلو كان ملكاً في الحقيقة لجعلناه بشراً في الصورة، حتى يكون من جنسهم، ويخاطبهم، ليقتدوا به وهو من جنسهم، أما لو جاءهم ملك لقالوا: أنت ملك، تصلي لأنك ملك أما نحن فبشر لا نستطيع، وإن تترك الشهوات فلأنك ملك، أما نحن فبشر فلا نترك الشهوات والمحرمات... وهكذا.
    فيعترضون على حكمته وقدره، ولهذا يقول الله تعالى: ((وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)) [القصص:68]، فيبين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنه ليس لهم أن يختاروا أن يكون الرسول بشراً، أو ملكاً، أو أن تكون الرسالة في رجل دون الآخر كما حكي عنهم: ((وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)) [الزخرف:31].
    فاعترضوا على عدم جعل الله تبارك وتعالى هذه النبوة وهذا الوحي وهذا الذكر ينزل على عروة بن مسعود، أو الوليد بن المغيرة، على رجل من القريتين -مكة والطائف- أما أن ينزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس عنده أموال، أو وجاهة في قريش، أو عنده عبيد وجواري، ولا كذا، فاعترضوا على حكمته؛ ولهذا يقول الله تعالى: ((أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) [الزخرف:32]، فالمعيشة الدنيوية هذه يقسمها الله تبارك وتعالى بين خلقه ((كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً)) [الإسراء:20]، أما النبوة، وأما الرحمة فالله أعلم حيث يجعل رسالته، ولا يحق لكم أن تعترضوا على اختيار الله تعالى، وتقولوا لو أنه اختار فلاناً، ولو أنه نبَّأ فلاناً لآمنا به، أما وقد نبَّأ فلاناً فلا!
    كما اعترضوا على الأتباع: ((قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ))[الشعراء:111]، كما قال قوم نوح، وقريش قالوا للنبي : ''اطرد هؤلاء الضعفاء لنجالسك نحن عظماء القوم، ونسمع منك، أما أن نجلس معهم، ونتأذى بروائحهم، فنحن لا يليق بنا ذلك'' وهذا من اعتراضهم على أتباعه وأتباع دينه، لذا نهاه ربه عن ذلك فقال: ((وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)) [الأنعام:52]، فهؤلاء الذين يرجون وجه الله، هم خير عند الله تبارك وتعالى وهم أفضل من أولئك، ولكن الله تعالى جعل بعضهم لبعض فتنة وهو أعلم بالشاكرين، فجعل إيمان الضعفاء فتنة؛ لكي لا يؤمن الكبراء وهذا من حكمة الله عز وجل.
    كما اعترضوا حتى على القرآن، فقالوا: لو أنه نزل جملة واحدة، فهم لا يريدونه أن ينزل بحسب الأحداث، ومنجماً بحسب الوقائع، بل يريدونه أن ينزل جملة واحدة، فرد الله تبارك وتعالى على هذا الاعتراض، وبين أن الحكمة من ذلك التثبيت، ولكي لا يأتوا بمثلٍ إلا جاءهم بالحق وأحسن تفسيراً، وهناك أنواع كثيرة من أنواع الاعتراض التي اعترض بها الجاهلون والمشركون.
    وأيضاً قد اعترض المنافقون، الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، فهم يعترضون دائماً على أوامر الله، فأصحاب الشهوات في كل مكان، وفي كل زمان، لا بد أن يعترضوا على دين الله، ولا يرضيهم ذلك، فلذلك يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط}.
    فهذه عبوديته: إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، وهذا ما فعله المنافقون، ((وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ)) [التوبة:58].
    فترى المنافق وأصحاب الشهوات إذا تحققت شهواتهم ورغباتهم، قالوا: أحسنت وهذا حكم طيب، وأنت حقاً رسول الله، وإن كان قاضياً فحكم له قالوا: هذا القاضي يقضي بالحق: ((وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ)) [النور:49]، فإن حكم لخصمه وكان هو المبطل، وحكم القاضي بالحق قال: هذا مخطئ، أو مرتشٍ، أو كذاب، فأهم شيء عندهم أن يكون تبع لأهوائهم، وليس تبعاً للحق، فإذا كان لهم الحق وعلموا أن الحكم سيكون لهم، جاءوا وقالوا: لا نريد أن يحكم بيننا إلا رسول الله، أما في وقتنا الحالي فيقولون: نريد صاحب دين، وإيمان، وتقى حتى يحكم بيننا؛ لأنه يثق بأن البينات التي عنده ستجعل الحكم له؛ لكنه لو كان في الحالة الأولى يقول: لا نريد فلاناً، كما قال المجرمون من قبل: نذهب إلى كاهن جهينة أو إلى كعب بن الأشرف: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً)) [النساء:60]، فقالوا: لا نذهب إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل نذهب إلى كعب لأنه يأخذ الرشوة.
    كما أن كثيراً منهم يعترضون على قدر الله، إن أعطاهم الله ووسع عليهم وأنعم عليهم، فيقولون: أكرمنا الله وأعطانا الله، وربكم لا يعطي إلا من يحب، وجعلوا ذلك دليلاً وعلامة على أن الله يحبهم، وأن أعمالهم صالحة وطيبة، ونسبوا ما يأتيهم من مال إلى عبادتهم، وإخلاصهم، وصدقاتهم، ونفقاتهم، وما علموا أنه استدراج!
    وأما إذا قدَّر عليهم أرزاقهم، وضيق عليهم، أو منعهم وإن كان بعد عطاءٍ، أو إذا أمرضهم وإن كان بعد شفاء وعافية قالوا: ((رَبِّي أَهَانَنِ))[الفجر:16] قالوا: كيف تعذبني؟! ماذا فعلت؟! وماذا صنعت؟ أو لماذا فعلت كذا ولم تفعل كذا؟! فيعترضون.
    وأكثر ما يعترض الخلق قديماً وحديثاً على أقدار الله عز وجل، ويظن أنه غير أهل لأن يبتليه الله بمصيبة، أو بفقد مال، أو بفقد حبيب، لأنه يرى أنه من أهل الصلاح والدين، ولو كان هذا في الفجار، أو في غيره من الذين يفعلون ما يفعلون لكان هذا أحق بهم وأجدر! ولا يعلمون أن الله تبارك وتعالى يبتلي بالخير والشر، وأن الله عز وجل يمتحن من ينعم عليه ليرى أيشكر أم يكفر ويمتحن من يأتيه بما لا يرضى به ليرى الله أيصبر أم يجزع ويقنط، ومن هنا لا بد من الرضا بأقدار الله تبارك وتعالى كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه.
  8. الاعتراض علىحكمة الرسول

    من ذلك أيضاً: الاعتراض على حكمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن لم يكن فيه اعتراض على حكمة الله كما فعل الخارجي -أصل الخوارج الذي خرجوا من ضئضئه- عندما حكم رسول الله وقسم الغنائم فقال: {إعدل يا محمد!} نعوذ بالله من ذلك، فاعترض هذا الخارجي على الحكمة النبوية، ورأى أن هواه وأن رأيه وأن عقله أصوب في هذا الشأن، وأنه يجب أن تكون القسمة بالمساواة أو أن يعطى الناس بحسب إيمانهم، فالمؤمنون العظماء يأخذون الألوف، ومن دونهم يأخذون المئات، والأقل إيماناً يأخذون الأقل من الإبل والأنعام، ولكن من حكمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وهي بوحي من الله- أن يعطي الأعراب، وأن يعطي المؤلفة قلوبهم، وأن يعطي حديثي العهد بالإسلام، وأما أولئك فكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{يكلهم إلى إيمانهم} هؤلاء مؤمنون، ورغبتهم إلى ما عند الله، ورغبتهم في الجنة، منذ أن بايعوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم العقبة فقالوا: {فما لنا يا رسول الله إن نحن فعلنا؟ قال: لكم الجنة، قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل} وهؤلاء المهاجرون أعظم من ذلك، هؤلاء لا يريدون الدنيا ومتاعها، ولا يبالون أُعطوا أم لم يُعطوا، أما أولئك فإذا أُعطوا آمنوا فآمنت بعدهم قبائل وأمم، وإن لم يُعطوا كفروا فتكفر بكفرهم قبائل وأمم.
    فالحكمة واضحة جلية، ومع ذلك اعترضوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا، ويجب أن نعلم أن الاعتراض كما يقول ابن القيم رحمه الله: '' هذه الاعتراضات وأمثالها سارية في جميع الخلق، قل من ينجو من نوع من أنواع الاعتراض على الله، أو على دين الله، أو على شرعه، أو على أخباره، أو على أحكامه'' قلَّ من ينجو من ذلك، ومن نجى من ذلك وحقق درجة التسليم المطلق، بلا معارضة، ولا ممانعة، فعليه أن يحمد الله على هذا، ويجعله امتحاناً واختباراً لإيمانه، فالأمثلة التي ذكرناها إنما هي إشارات، وإلا فداء الاعتراض داء عظيم، وقليل من خلق الله هم حقاً من ذاقوا طعم الإيمان، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً}.
    جعلني الله والمسلمين من الراضين، ومن هؤلاء المصطفين الأخيار، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.